بكين – لم يتعاف الاقتصاد العالمي بعد من تأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية، حتى دخل في خضم أزمة جديدة إثر التصعيد بين الصين وتايوان والذي من المُحتمل أن يشكل صدمة جديدة لاقتصاد عالمي ضعيف النمو.
ويقول الأستاذ المساعد بقسم الاقتصاد في كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة الدكتور سمر الباجوري “لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” إن الزيارة الأخيرة لرئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان أدت إلى تصعيد حدة التوترات في هذا الملف. وبالتالي فإن هشاشة الاقتصاد العالمي نتيجة ما لحق به من أزمات مُتلاحقة، تجعل لأيّ تصعيد عسكري صيني مُحتمل ضد تايوان تداعيات وخيمة على الاقتصاد العالمي، ومن ضمنه منطقة الشرق الأوسط.
واعتبرت الصين وفق الكاتب زيارة بيلوسي إلى تايوان، في مطلع أغسطس 2022، انتهاكاً لمبدأ السيادة الصينية على هذه الجزيرة. وبشكل فوري، أجرى الجيش الصيني تدريبات عسكرية شملت اختراق المجالين الجوي والبحري لتايوان، مما اعتبره البعض إنذاراً من بكين للقيادة السياسية في تايبيه بعدم السماح لهم بممارسة أيّ أنشطة تبدو استقلالية في المستقبل.
كما فرضت بكين مجموعة من العقوبات الاقتصادية على تايوان، أبرزها وقف تصدير الرمال الطبيعية المُستخدمة في صناعة الرقائق الإلكترونية والتي تشكل أهمية كبيرة للاقتصاد التايواني. وتعد تايوان مركزاً عالمياً لإنتاج الرقائق الإلكترونية، وتحتكر توريدها إلى العديد من دول العالم من خلال شركة “تي أس أم سي”، حيث تُستخدم هذه الرقائق على نطاق واسع في صناعة السيارات والأجهزة الإلكترونية، والأسلحة الحديثة. ويُضاف إلى ذلك، وقف الصين تصدير الأسماك والفواكه إلى تايوان.
ويؤكد الكاتب أن بكين تفادت اتخاذ إجراءات تصعيدية إضافية ضد تايوان، مما بدا معه أن حركة مرور التجارة عبر مضيق تايوان تسير بشكل طبيعي، كما لم يتضرر النشاط الاقتصادي في الجزيرة. ومع ذلك، لا يزال العالم يترقب تطورات موقف الصين إزاء تايوان، واحتمالات مُضيها قُدماً في اتخاذ إجراءات تصعيدية أخرى مثل حصار الجزيرة أو غزوها، الأمر الذي ستترتب عليه خسائر ليس فقط بالنسبة إلى الاقتصاد التايواني، وإنما أيضاً للنشاط الاقتصادي في العالم.
ويشير الكاتب أن التأثير المُحتمل الأبرز في حال تصاعد الأزمة بين الصين وتايوان هو تعطل تدفقات التجارة والاستثمار من الصين إلى دول العالم كافة، ومنها الشرق الأوسط، حيث أن حصار تايوان أو غزوها عسكرياً من شأنه أن يؤثر على التجارة المشتركة مع دول المنطقة، وذلك من خلال مجموعة من القنوات.
ويتحدث الكاتب عن تضرر النشاط الصناعي الصيني قائلا إنه “من الوارد أن تضر الأزمة الحالية بالإنتاج الصناعي الصيني، عبر تأثيرها على واردات الرقائق الإلكترونية من تايوان والتي تعتمد عليها بكين بصورة كبيرة في مجالات التصنيع لديها. وتستورد الصين حوالي 40 في المئة من احتياجاتها من الرقائق الإلكترونية من تايوان، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود بديل يمكن أن يحل محل تايوان حالياً؛ نظراً لأنها المصدر الرئيسي لإنتاج الرقائق الإلكترونية عالمياً”.
ويشير الكاتب إلى تأثر واردات الصين من الطاقة حيث توقع أن ينتج عن أزمة تايوان، في حال تحولها إلى صراع عسكري، فرض عقوبات اقتصادية على الصين من قِبل الولايات المتحدة والقوى الأوروبية وبعض الدول الآسيوية، مثلما حدث مع روسيا عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير الماضي؛ وهو ما سيؤثر بصورة كبيرة على الصين وقطاعها الصناعي، مما يؤثر بالتبعية على تدفقات واردات بكين من الطاقة من جهة، وكذلك حركة التجارة الصينية مع دول العالم، في حالة امتدت العقوبات إلى الاستبعاد من نظم الدفع العالمية مثلما حدث مع روسيا.
وسينعكس الأمر بصورة كبيرة حسب الكاتب على حركة التجارة الصينية مع دول الشرق الأوسط من ناحية، وعلى تدفقات الاستثمارات الصينية إلى دول المنطقة من ناحية أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن الصين تستحوذ وحدها على حوالي 17 في المئة من إجمالي واردات الشرق الأوسط من العالم، وحوالي 40 في المئة من واردات المنطقة من السلع الإلكترونية، وقرابة 28 في المئة من الواردات من السلع الرأسمالية (الآلات والمعدات). وبالتالي سيكون لتعطل حركة التجارة أو الإنتاج الصناعي الصيني، تأثير بالغ على اقتصادات تلك الدول.
ويشير الكاتب إلى أنه على صعيد الصادرات، فعلى الرغم من أن صادرات الشرق الأوسط إلى الصين لا تتجاوز 13 في المئة من إجمالي صادرات المنطقة إلى العالم بشكل عام، فإن التأثير الأكبر سيكون على صادرات النفط والغاز من المنطقة، حيث تستحوذ الصين على 17 في المئة من الصادرات النفطية للمُنتجين في الشرق الأوسط، وهي تمثل في الوقت ذاته قرابة 30 في المئة من واردات الصين من السلع النفطية من دول العالم كافة.
وخلص الكاتب أن لأزمة تايوان تداعيات كبيرة مُحتملة على التجارة المشتركة بين الصين ودول الشرق الأوسط، وإن التأثير سيكون مُضاعفاً بالنسبة إلى الدول المُنتجة للنفط والتي تُصدّر نسبة كبيرة من إنتاجها إلى بكين، بيد أنه في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية سيظل هناك سوق بديل لتصريف الصادرات النفطية إلى دول أخرى غير الصين.
ويقول الكاتب إنه من الوارد أن تؤدي الأزمة بين الصين وتايوان، في حال تصاعد وتيرتها، إلى تراجع تدفقات الاستثمارات الصينية إلى منطقة الشرق الأوسط، خاصةً في حالة فرض عقوبات اقتصادية على بكين، لاسيما فيما يتعلق بتقييد تعاملها بنظام المدفوعات العالمي أو في حالة تضرر الاقتصاد الصيني جراء تلك الأزمة.
وسيترتب على ذلك وفق الكاتب ضرر بالغ على اقتصادات الشرق الأوسط؛ نظراً إلى أهمية الاستثمارات الصينية لدول المنطقة ونموّها بشكل مُطّرد في السنوات الأخيرة، خاصةً في مشروعات البنية التحتية والاستثمارات اللوجستية. فمثلاً في العراق الذي يعد ثالث أكبر مُورّد للنفط إلى الصين، بلغ حجم الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة حوالي 10.5 مليار دولار عام 2021. كما تشارك الصين في مشاريع البنية التحتية بالعديد من دول المنطقة، وذلك في إطار “مبادرة الحزام والطريق”.
ويؤكد الكاتب أن تأثير أزمة الصين وتايوان لن يقتصر على حركة التجارة المشتركة بين دول الشرق الأوسط والصين فقط، وإنما سيمتد تأثيرها في حالة تزايد حدة التوترات وتطبيق حصار بحري أو مناوشات عسكرية بحرية إلى حركة التجارة العالمية من خلال تأثيرها على سلاسل الإمداد العالمية بشكل عام، والمُرتبطة تحديداً بالصناعات الإلكترونية. علاوة على تأثيراتها المُتوقعة على خطوط الشحن البحري في بحر الصين الجنوبي، والذي يمر عبره حوالي 60 في المئة من التجارة البحرية العالمية.
ويضيف أن “بحر الصين الجنوبي له أهمية جيواقتصادية كبيرة؛ نظراً لما يتمتع به من احتياطيات نفطية ضخمة تتراوح من 23 إلى 30 مليار طن من النفط، و16 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي. كما يضم في أعماقه الكابلات الحيوية لخدمات الاتصالات الدولية. وبالتالي فإن أيّ تهديد بإغلاق ممراته الملاحية، سيكون له تأثير كبير على دول العالم.
ويشير الكاتب إلى أن تصاعد التوترات بين الصين وتايوان وتزايد حدة التهديدات بتدخل عسكري مباشر من قِبل بكين، يضعان العالم أمام سيناريوهين.
أما السيناريو الأول (وهو الأكثر تشاؤماً) فيتمثل في انتقال الأزمة إلى صراع عسكري مباشر يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية على الصين من قِبل الغرب، وسينعكس ذلك على النظام الاقتصادي العالمي المُتأزم بالفعل جراء الصدمات المُتتالية التي ألمّت به، ويزيد من حالة اللايقين التي تسود الاقتصاد العالمي في الفترة الأخيرة، وهو الأمر الذي ستعاني دول العالم أجمع من تأثيراته، ومنها دول الشرق الأوسط التي تربطها بالصين علاقات اقتصادية كبيرة.
ويتمثل السيناريو الثاني (وهو الأكثر احتمالية) وفق الكاتب في التهدئة أو على أقل تقدير ثبات الوضع الراهن بين الصين وتايوان، من دون وصوله إلى مواجهات عسكرية، ويعني ذلك محدودية التأثيرات الاقتصادية للأزمة. ويبدو أن تزايد احتمالية حدوث هذا السيناريو يرجع بصورة كبيرة إلى الحقيقة الخاصة بطبيعة الاقتصاد الصيني وعلاقاته المتشابكة مع دول العالم كافة، ومنها الولايات المتحدة نفسها، مما يجعل الدول الغربية تتفادى التصعيد العسكري بين الصين وتايوان، ومن ثم تجنّب تكرار سيناريو الحرب الروسية – الأوكرانية.